نشاة الامبراطوورية المغولية

 جنكيزخان وتوحيد القبائل

 وُلد «جنكيزخان» فى سنة (549هـ = 1154م)، بإحدى المناطق المغولية، وكان أبوه «يسوكاى بهادر» رئيسًا لقبيلة «قيات» المغولية، وكان يحارب - أحيانًا- القبائل المجاورة له، كما كان يصطدم ببعض قبائل التتار، وقد خرج مرة لمحاربة رئيس إحدى القبائل التترية، وانتصر عليه، وتمكن من أسره وقتله، فلما عاد إلى موطنه وجد امرأته قد ولدت مولودًا، فأسماه «تموجين» بنفس اسم رئيس قبيلة التتار الذى تمكن من أسره وقتله، تيمنًا بانتصاره عليه. 

 عاش «تموجين» حياة عز ودلال فى مطلع حياته، إلا أنه لم ينعم بها طويلا، حيث مات أبوه وهو فى الثالثة عشرة من عمره، فتغير الحال، وانفض عنه أكثر الناس، واضطر إلى الاعتماد على نفسه فى رعاية أسرته، فكونت هذه الفترة شخصيته، وطبعته بطابع الجد والصرامة، لدرجة أنه كان يستطيع أن يبقى ثلاثة أيام دون طعام أو شراب، فلما بلغ السابعة عشرة من عمره التف حوله جماعة من الناس، وتمكن من خلالهم أن يكون قوة يُخشى بأسها فى المنطقة، فبدأ يفرض نفوذه على القبائل المجاورة، واحدة تلو الأخرى. 

 كانت شخصية «تموجين» القوية من بين الأسباب التى دفعت الناس إلى الالتفاف حوله، فبدأ بفرض نفوذه، ثم السيطرة على القبائل الكبيرة، وتمكن فى سنة (599هـ) من إحراز نصر كبير على قبيلة «كرايت»، وأسرعت القبائل الأخرى إلى الدخول فى طاعته، وقضى على ملك «النايمان»، ودخلت قبائله تحت إمرته فى سنة (600هـ)؛ التى اجتمعت فيها القبائل وأجمعت على اختيار «تموجين» إمبراطورًا لها تحت اسم جنكيزخان. 

 وتُعدُّ هذه السنة بداية للدولة المغولية، التى وضع لها «جنكيزخان» مجموعة من القوانين الصارمة عرفت باسم «دستور الياسّا» فى عام (603هـ)، وكان على كل من يخضع لهذه القوانين أن يدين لها بالولاء، أما من يخرج عليها فليس له من جزاء إلا القتل فورًا، وهكذا استطاع «جنكيزخان» أن يوحد شتات هذه القبائل فى دولة واحدة تخضع لدستور واحد، واستغل قُوى هذه الأقوام والقبائل فى تكوين جيش قوى استطاع به - بعد ذلك- أن يطيح بالدول المجاورة له، الواحدة تلو الأخرى. 

  سيطرة «جنكيزخان» على الدول المجاورة 

 1 - الدولة الأويغورية وانضمامها إلى امبراطورية جنكيزخان

 دخل «الأويغور» فى طاعة ملك «الخطا»، الذى أرسل إليهم قوات من عنده لكنها أساءت معاملة الأهالى الأويغوريين، فهاجمتها الأهالى وقضت عليها، فأرسل إليهم «ملك الخطا» قوة كبيرة تمكنت من إخضاع «الأويغور» لسطوتها، ونكلت بهم أشد أنواع التنكيل، فبعث «الأويغور» إلى «جنكيزخان» يطلبون منه المساعدة، فى الوقت الذى ثاروا فيه على جنود «الخطا»، وتمكنوا منهم وقتلوا رئيسهم، ثم دخلوا بعد ذلك تحت حماية «جنكيزخان» فى سنة (606هـ)، ونتيجة لذلك فقد شاع «الخط الأويغورى» بين أتباع «جنكيزخان»، وأصبحوا يدَوِّنون به سجلاتهم وكتاباتهم. 

 2 - سيطرة جنكيز على أقاليم الصين الشمالية

 لاحظ «جنكيزخان» أن ملوك «الصين» الشمالية يحاولون الوقيعة بين القبائل المغولية الخاضعة لسيطرته، ويعملون على تأليب أفراد هذه القبائل عليه وعلى قبيلته، فخرج إليهم على رأس جيش كبير، وأخذ معه كل أبنائه فى قيادة هذا الجيش، ودخل فى حروب متواصلة، بدأت فى عام (608هـ)، وانتهت فى عام (612هـ)، حين سيطر «جنكيز» على العاصمة «بكين»، واستولى على كنوز «الصين» ونفائسها، فارتقت حياة المغول، وصاروا يصنعون خيامهم من الحرير، ويرصعون سيوفهم بالجواهر. 

 وقد انتفع المغول من خبرات «الصين» العسكرية؛ إذ تمكن الصينيون من اختراع البارود، وتطوير آلات الحرب القديمة وعدتها، مثل «المجانيق» و «العَرَّاوات» وغيرها، مما مكنهم من فتح أحصن القلاع وأمنعها، وأصعب المناطق العسكرية، كما استفادوا من استيلائهم على «بكين» الأثر النفسى الذى تكوَّن لدى الناس من المفاجأة التى سيطرت عليهم حين سمعوا بأن مجموعة من القبائل البربرية الهمجية قد أطاحت بدولة كبرى مثل «الصين الشمالية»، ولم يستطع بعض الملوك تصديق هذا الحدث، مثلما فعل «محمد خوارزمشاه» الذى لم يصدق هذا الأمر حتى سنة (615هـ)، وبعث ببعض خاصته تحت رئاسة أحد العلماء فى بعثة استكشافية للتحقق من صحة هذا الخبر، فلما تيقن من ذلك أبدى دهشته، ووقر فى نفسه أن هذه القوة الوليدة لابد أنها تمتلك قوة خارقة، وعليه أن يحتاط لذلك، وسيطر عليه هاجس امبراطورية المغولية الوليدة، وهكذا نُصر المغول بالرعب، وخافهم الملوك، ورؤساء الدول المحيطة بهم. 

 ثم عاد «جنكيزخان» من «الصين» إلى بلاده فى سنة (618هـ)، لكى يطارد رؤساء القبائل الفارِّين منه، والذين تسببوا فى إحداث بعض الاضطرابات والمشاكل فى بلاده.



3 - قضاء جنكيزخان على الدولة القراخطائية

 فر عدد من رؤساء القبائل وأبنائهم من وجه «جنكيزخان» إبان المذابح التى قام بها أثناء محاولته توحيد شتات القبائل التركية المغولية، وكان من بينهم «كوجلك خان» ابن ملك قبائل «النايمان» الذى هام على وجهه متوجهًا نحو الغرب وبصحبته مجموعة من جنوده، حتى عبر حدود «الدولة القراخطائية»، فتم القبض عليه وعلى من معه، وأمر «كورخان» ملك هذه الدولة بإيداعهم السجن. 

 وأثناء ذلك نشب نزاع بين القراخطائيين والخوارزميين، حيث امتنع السلطان «علاء الدين محمد خوارزمشاه» عن دفع الجزية السنوية التى كانت تدفع للدولة القراخطائية»، وكان مقدارها ثلاثين ألف دينار، وكان السلاطين الخوارزميون يوصون أبناءهم بدفع هذه الجزية لهم؛ لأنهم يمثلون السد الذى يمنع عن بلادهم غارات القبائل الهمجية من جهة الشرق، فلما امتنع «محمد خوارزمشاه» عن دفع هذه الجزية، كان لابد من قيام الحرب بين الطرفين. 

 استطاع «كوجلك خان» - من سجنه - أن يخدع «كورخان» ملك «الخطا» ويقنعه بأنه خير معين له فى حربه ضد «خوارزمشاه»، وأنه يستطيع بسهولة أن يجمع جيشًا كبيرًا من الجنود الذين فروا أمام «جنكيزخان»، وأن بوسعه أن يلحق الهزيمة بخوارزمشاه. 

 وكان «كورخان» فى حاجة إلى من يساعده، فوافق على عرض «كوجلك»، وأطلق سراحه، وأمَّنه، وسمح له بالخروج لجمع الجنود وتكوين الجيش، فما كان من «كوجلك» إلا أن اتصل بمحمد خوارزمشاه واتفق معه على أن يجمع جيوشه ويهاجم القراخطائيين جهة الشرق، فى الوقت الذى يهاجمهم فيه الخوارزميون من الجهة الغربية، مقابل اقتسامها، فوافقه «محمد»، وتم تنفيذ هذا المخطط، وتمكن «كوجلك» من قتل «كورخان»، ثم تزوج ابنته بعد أن ارتد عن دينه إلى البوذية من أجل هذا الزواج. 

 اضطهد «كوجلك» المسلمين فى المناطق التى سيطر عليها، وأخذ يُضيِّق عليهم، ويستولى على أرزاقهم، ويمنعهم من أداء شعائرهم، ويهدم مساجدهم، ويمنعهم من رفع الأذان، ويحاول إرغامهم على ترك الدين الإسلامى واعتناق البوذية، فضج المسلمون من ذلك وطلبوا العون من «جنكيزخان»، فأرسل إليهم جيشًا بقيادة أحد قادته الكبار للتخلص من «كوجلك»، وتمكن هذا الجيش ببراعة عسكرية فائقة من القضاء على جيش «كوجلك» فى وقت قصير جدا، وفر «كوجلك» من أمام القائد المغولى، ولكن المغول تتبعوا خطواته حتى أدركوه، وقضوا عليه فى سنة (615هـ). 

 دهش «محمد خوارزمشاه» من الطريقة التى تمكن بها القائد المغولى من السيطرة على «الدولة القراخطائية»، فى حين أنه كان يخشى بأس «كوجلك» ويهابه، لدرجة أنه أمر سكان القرى الحدودية بينه وبين دولة «كوجلك» بهجرها حين دب خلاف بينهما، خشية أن يهاجمه «كوجلك»، فشعر بالقلق وسيطر عليه الخوف، خاصة أن بلاده أصبحت مجاورة لأملاك «جنكيزخان» بعد أن ساعد هو نفسه فى زوال «الدولة القراخطائية» التى كانت بمثابة حائط الصد المنيع لبلاده ضد غارات المغول البربر. 

 الخوارزميون والمغول

حدث صدام بين السلطان «محمد خوارزمشاه» وفيلق من المغول فى سنة (612هـ) بعد أن تغلب المغول بقيادة «جنكيزخان» على جميع البلاد المتحضرة المجاورة لهم فلم يقصدوا بلدًا إلا فتحوه، حتى بلاد «الصين» التى ظلت فى نظر القبائل المغولية أرضًا لايمكن أن تستباح حرمتها بأية قوة، تمكن «جنكيزخان» من دخولها، وفتح «بكين» عاصمة «الصين الشمالية» فى سنة (612هـ)، التى وقع فيها الصدام بين الخوارزميين والمغول حين قاد أحد زعماء القبائل الفارين من وجه «جنكيزخان» مجموعة من أبناء قبيلته وانطلق شمالا، واستقر فى منطقة قريبة من نفوذ الخوارزميين، فأرسل «جنكيزخان» ابنه «جوجى» (توشى) على رأس فرقة صغيرة من جنوده لتعقب هؤلاء الفارين، فقضى «جوجى» عليهم، ثم عاد أدراجه قاصدًا «منغوليا»، فالتقى فى طريق العودة بجيش كان يقوده السلطان «محمد خوارزمشاه» بنفسه، فبعث «جوجى» إليه برسالة مؤداها أن المغول ما قدموا إلا من أجل دفع الثوار الخارجين، ولم يأتوا لمحاربة المسلمين، وليست عندهم أوامر بذلك، فلما قرأ «السلطان محمد» الرسالة ركبه الغرور، وأعلن الحرب عليهم، وهاجمهم، واستمرت الحرب سجالا بين الطرفين طيلة النهار حتى أتى الليل، فأشعل المغول النار فى معسكرهم، ثم انسحبوا فى جنح الليل، واكتشف السلطان أمرهم عند طلوع النهار، فأثر ذلك فى نفسه وترك بداخله جرحًا عميقًا وخوفًا شديدًا، فقد رأى بنفسه ما يتمتع به هؤلاء المغول من مقدرة على خوض غمار الحروب. 

 فلما هاجم المغول بلاده - بعد ذلك - أخذ يتقهقر أمامهم بغير انتظام، وفقد القدرة على مواجهتهم ومنازلتهم، وقد استولت عليه الدهشة عندما سمع بنبأ فتح المغول للعاصمة الصينية «بكين»، ولم يصدق ذلك حيث كانت «الصين» تتمتع بنظام إدارى وعسكرى فريد، وبعث «بهاء الدين الرازى» أحد أركان دولته لاستطلاع هذا الخبر، فلما تأكد «الرازى» من صحة الخبر، عاد إلى السلطان «محمد خوارزمشاه» ووصف له ما رأى خلال رحلته بقوله: «عندما وصلنا إلى حدود طمغاج واقتربنا من عاصمة التون خاتون (أى عاصمة أباطرة الصين الشمالية وهى بكين) تراءى لنا من مسافة بعيدة أكمة بيضاء عالية تلك الأكمة العالية تبعد عن المكان الذى كنا فيه نحو مسيرة ثلاثة أيام أو أكثر، فخيل إلينا نحن مبعوثى خوارزمشاه أن تلك الأكمة العالية ربما كانت جبلا تكسوه الثلوج، فسألنا المرشدين وأهل المنطقة، فقالوا لنا: إنما هى مجموعة عظام الذين قُتلوا. 

 وعندما تقدمنا مرحلة أخرى فى الطريق، كانت الأرض قد صارت لزجة سوداء (بسبب ما اختلط بها من دماء الآدميين) وعندما وصلنا إلى أبواب طمغاج وجدنا فى موضع أسفل برج القلعة عظامًا آدمية كثيرة، فاستفسرنا عنها، قيل: إنه فى يوم فتح المدينة ألقى أهلها بعشرين ألف فتاة عذراء من هذا البرج، فهلكن هناك حتى لا يقعن فى أيدى جيش المغول، فهذه العظام كلها ما هى إلا رفات تلك الفتيات. 

 وعندما شاهدنا «جنكيزخان» أحضروا أمامنا ابن التون خان (إمبراطور الصين) ووزيره مقيدين ولدى عودتنا أرسلوا معنا إلى خوارزمشاه الكثير من التحف والهدايا، وقال لنا: قولوا لمحمد خوارزمشاه: إننى ملك مشرق الشمس، وأنت ملك مغرب الشمس، وبيننا عهد ومودة ومحبة وصلح مستحكم، فليستمر التجار، ولتستمر القوافل رائحة غادية بين الطرفين، ولينقلوا إليك الطرائف والسلع التى فى ولايتى، وبلادك أيضًا يكون لها نفس الحكم. 

 كان السلطان «محمد» -آنذاك- يشعر أنه فى أوج قوته، فقد استطاع بسط سيطرته ونفوذه على «إيران» بأكملها عدا ولايتى «فارس» و «خوزستان»، وضم «العراق» وبلاد «ما وراء النهر» و «تركستان الشرقية»، وفكر - فى وقت ما - فى غزو بلاد «الصين» وضمها إلى حوزته، كما فكر فى أن تكون له الهيمنة على «بغداد» والخلافة العباسية، كما كانت لسلاطين السلاجقة، ولكن أمله خاب فى هذا الشأن حين هاجمت جيوشه العواصف والأمطار الغزيرة والثلوج، ومات عدد كبير من جنوده وهلكت خيوله فى طريقه إلى غزو «بغداد»، فعاد إلى بلاده خائبًا منكسرًا فى سنة (614هـ)، فكانت هذه أول صدمة صادفته منذ ولى أمور الحكم فى سنة (596هـ)، ولذلك قال أحد المؤرخين: «إن هيبة السلطان قد قلت فى قلوب الناس بعد عودته من العراق، وعد الناس قصده دار الخلافة شؤمًا عليه». 

 لم يعد «السلطان محمد» إلى بلاده مباشرة حين رجوعه من «العراق»، وإنما توجه إلى بلاد «ما وراء النهر»، واستقبل هناك وفدًا من تجار المغول المسلمين، برئاسة «محمود الخوارزمى» الذى تنتمى أسرته إلى إقليم «خوارزم»، حاملا رسالة من «جنكيزخان» إلى «السلطان محمد» يقول له فيها: «إن الخان الكبير (يعنى جنكيز) يسلم عليك، ويقول: ليس يخفى علىَّ عظيمُ شأنك، وما بلغت من سلطانك، ولقد علمت بسطة ملكك، وإنفاذ حكمك فى أكثر أقاليم الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندى مثل أعز أولادى، وغير خافٍ عليك - أيضًا- أننى ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك، وقد أذعنت لى قبائلهم، وأنت أخبر الناس بأن بلادى مثارات العساكر، ومعادن الفضة، وإنها لغنية عن طلب غيرها، فإن رأيت أن تفتح للتجار فى الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت الفوائد. 

 شعر «السلطان محمد» بغيظ شديد تجاه هذه الرسالة، إذ كانت تحمل فى طياتها طابع التهديد والوعيد، فضلا عن الإهانة التى شعر بها حين اعتبره «جنكيزخان» فى منزلة الابن، وهذا يعنى التبعية للمغول، ومهما يكن من أمر فقد وافق «السلطان محمد» على إبرام المعاهدة التجارية التى عرضها عليه «جنكيزخان» إلا أنه سرعان ما قضى عليها بنفسه وهى مازالت فى مهدها، لشعوره بأنه مازال قويا، ويجب عليه ألا يعبأ بهؤلاء الهمج من المغول، فضلا عما عرف عنه من تكبر، وبغض للتواضع والتملق والمداهنة. 

 بعث «جنكيزخان» - ثانية- برسالة إلى «السلطان محمد»، وكان يحملها مجموعة من التجار وبصحبتهم عدد من أتباع «جنكيزخان»، وكانت القافلة كلها من المسلمين، ووصلت إلى مدينة «أترار» التى تقع على حدود ممالك «السلطان محمد»، فطمع «نيال خان» حاكم هذه المدينة فى الهدايا التى تحملها هذه القافلة، وبعث إلى «السلطان محمد» يخبره بأمرهم، وشكه فى أنهم ربما يكونون جواسيس، فأمره السلطان بقتلهم على الفور، فقتلهم جميعًا إلا رجلا واحدًا تمكن من الفرار، وذهب إلى بلاط «جنكيز» وأخبره بما حدث، فاستشاط غضبًا، وهاله الأمر. 

 كان «جنكيزخان» يظن أن «الدولة الخوارزمية» دولة قوية متماسكة، وليس بوسعه غزوها، إلا أنه أدرك أن الحرب مع الخوارزميين لا مفر منها، وعليه أن يتريث قليلا حتى يعد لذلك العدة، فبعث برسالة يحملها وفد رسمى من أتباعه المسلمين إلى «السلطان محمد»، يقول له فيها: «إنك قد أعطيت خطَّك ويدك بالأمان للتجار ألا تتعرض لأحد منهم، فغدرت ونكثت، والغدر قبيح، ومن سلطان الإسلام أقبح، فإن كنت تزعم أن الذى ارتكبه نيال خان كان من غير أمر صدر منك، فسلِّم نيال خان إلىَّ، لأجازيه على ما فعل، حقنًا للدماء، وتسكينًا للدهماء، وإلا فأذن بحرب ترخص فيها غوالى الأرواح».



رفض «السلطان محمد» احتجاج «جنكيزخان» كما رفض تسليم «نيال خان»، وأمر بقتل الوفد المغولى الذى حمل إليه الرسالة، وكان ذلك فى عام (615هـ)، الذى بدأ «جنكيزخان» فيه الاستعداد لحرب الخوارزميين، ووضع خطة لذلك، وبدأها بتأمين ظهره من المناوئين لسلطته، وقضى على دولة «النايمان» وحاكمها «كوجلك خان»، فبات الطريق أمامه مفتوحًا لغزو «الدولة الخوارزمية. 

 تسرب القلق والحيرة إلى نفس السلطان «محمد»، وغلب عليه التوتر والخوف، وجفاه النوم، كلما سمع باقتراب المغول من بلاده، وأشار عليه بعض مستشاريه بجمع جيش كبير يقف به على ساحل «نهر سيحون»؛ ليحول دون عبور المغول إلى بلاد «ما وراء النهر»، ولكن الأمراء الخوارزميين أشاروا عليه بأن يستدرج المغول ويدعهم يعبرون إلى بلاد «ما وراء النهر»، ثم يستدرجهم إلى الجبال والممرات التى يصعب عبورها، ثم ينقض عليهم بجيوشه من كل جانب، فراقت هذه الفكرة «السلطان محمد»، وفرق جيشه وأمراءه على المدن الرئيسية ببلاد ما وراء النهر. 

 ولبث محمد خوارزمشاه ينتظر المغول، ثم ترك جيوشه وقواده ببلاد «ما وراء النهر» وعاد إلى «خراسان» بسبب بعض الأمور الداخلية التى أقلقته، والتى كان من أبرزها سيطرة أمه وزيادة نفوذها على البلاد والجيش، لدرجة أنها تفوقت عليه فى النفوذ. 

 فلما وصل «جنكيزخان» إلى بلاد «ما وراء النهر»، قسم جيوشه عليها، وتمكن من السيطرة على هذه المنطقة فى وقت قصير، واستولت جيوشه على «أترار» و «بخارى» و «سمرقند»، وأمهات مدن بلاد «ما وراء النهر»، ولم يجد المغول المقاومة الشرسة التى انتظروها، فأدرك «جنكيزخان» حالة السلطان النفسية، وعمد إلى المبالغة فى القتل والسلب والنهب ليزداد خوف الخوارزميين وغيرهم، وقتل سكان مدينة «أترار» عن بكرة أبيهم، وأحرق «بخارى» عن آخرها، وقتل كثيرًا من سكانها، وأخذ من بقى منهم على قيد الحياة رقيقًا؛ ليستخدمهم فى حروبه التالية، فجمع الخوارزميون أمرهم على بناء سور عظيم حول مدينة «سمرقند» آخر أمل لهم فى الصمود والبقاء، ولكن المغول كانوا أسرع منهم ووصلوا إلى «سمرقند» قبل أن يشرعوا فى بناء سورها، وتمكنوا من اقتحام هذه المدينة، فانهار «السلطان محمد» وأخذ يولى الأدبار من مكان إلى مكان، وأرسل بعض أتباعه لكى ينقلوا زوجاته وبنيه من «خوارزم» إلى «مازندان»، فانتقلت عدوى الخوف والاضطراب من السلطان الهارب إلى ثقاته وأتباعه ومستشاريه، واختلفت بينهم الآراء فيما ينبغى أن يقوموا به فى سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستقر الأمر بالسلطان إلى أن اختار التوجه إلى بلاد العراق العجمى غربى «إيران»؛ ليبتعد بنفسه وجيشه قدر الإمكان عن هؤلاء الغزاة، ثم يستجمع قواه وجنوده، ويستعد للقاء المغول، وعاد من جديد وولى وجهه شطر الشمال الغربى إلى «نيسابور»، وأثناء ارتحاله سمع بسقوط «بخارى» و «سمرقند» فى أيدى المغول فزادت حالته النفسية سوءًا. 

 ومما لاشك فيه أن السرعة التى تمتعت بها جيوش المغول فى الاقتحام والتوغل، كانت من العوامل التى تركت آثارًا نفسية بعيدة الغور فى نفوس المسلمين، مثلها فى ذلك مثل المذابح الرهيبة التى نصبوها بعد فتح المدن المحاصرة؛ وهى المدن التى تركوها خرابًا يبابًا، ليس فيها نفس واحد يتردد، كمدينة «نيسابور» التى قتلوا كل من فيها من الأحياء حتى القطط والكلاب، وبقروا بطون الحوامل، وأخرجوا الأجنة منها وذبحوها. 

 ولاشك أنه كانت هناك أسباب أخرى أدت إلى حدوث هذه الحالة من الشلل التى أصابت تفكير الناس وحركتهم تجاه المغول أثناء غزوهم لبلادهم، فإلى جانب السرعة التى تمتع بها المغول فى التحرك والقسوة المتعمدة، ساعد مظهرهم البغيض، وما كانوا عليه من عادات قبيحة كريهة على زيادة الرعب والفزع والقلق والخوف فى قلوب الناس. 

 وكان المغول إذا أرادوا الإغارة على مدينة، بعثوا برسالة إلى أهلها ويختمونها بقولهم: «ولسنا نعلم ماذا تفعل بكم الأقدار إذا لم تسرعوا إلى تقديم الخضوع والاستسلام لنا، والله وحده هو الذى يعلم ما هو نازل بكم». 

 وهكذا نظر المسلمون إلى المغول وتصرفاتهم بالكثير من الاشمئزاز والنفور والكراهية، باعتبارهم غير خاضعين للمقاييس والمعايير الإنسانية الأساسية، ولذلك امتلأت نفوس الناس بالرعب منهم. 

 تعرض «السلطان محمد» لمحاولة قتله على أيدى بعض المتمردين من قادته قبل أن يدخل «نيسابور»، إلا أنه تمكن من النجاة، وسارع بالتوجه إلى «نيسابور»، فلما دخلها جاءته الأخبار بأن «جنكيزخان» بعث جيشًا كبيرًا فى أثره للقضاء عليه، فانطلق بقواته المتبقية إلى الشمال الغربى، فما لبثت هذه القوات التى كانت تصاحبه أن انفرط عقدها، وتفرقت من حوله، واستطاع «السلطان محمد» أن يهرب بنفسه ومعه بعض أولاده إلى جزيرة منعزلة فى «بحر قزوين»، ثم اعتلت صحته، واهتدى الجيش المغولى الذى كان يطارده ويتعقبه إلى القلعة التى كانت تختبئ فيها زوجاته فى «مازندان»، فاقتحموها وأسروا زوجاته، وقتلوا مَنْ وجدوه بالقلعة من أبنائه ورجاله، فلما علم «السلطان محمد» بذلك فقد وعيه، واستولى



عليه القلق والاضطراب، وأخذ يبكى بكاءً مرا حتى وافاه أجله فى سنة (617هـ) بعد أن استولى المغول على معظم أقاليم «إيران» وأحسنها. 

 وهكذا كان للعامل النفسى دوره واعتباره فى حروب «جنكيزخان» على «الدولة الخوارزمية»، وهو دور لا يقل أهمية عن الدور الذى لعبته العوامل السياسية والعسكرية التى تسببت فى هزيمة الخوارزميين واندحارهم أمام الغزاة. 

 السلطان جلال الدين المنكبرتى وجهاده ضد المغول: المرحلة الأولى من جهاد جلال الدين: كان السلطان «محمد خوارزمشاه» - قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة - قد منح ولاية العهد لابنه الأكبر «جلال الدين»، المعروف باسم «منكبرتى» بدلا من ابنه «أوزلاغ» المعروف باسم «قطب الدين»، وتوجه «جلال الدين» -عقب وفاة أبيه- إلى «خوارزم»، فقوبل بمعارضة شديدة من أتراك «القنفلى» الذين يتكون منهم عصب الجيش، حيث كانوا يرغبون فى أن يكون «غياث الدين» سلطانهم؛ لأن أمه من طائفتهم، ولم يكتفِ هؤلاء الجنود بالمعارضة، بل دبروا لقتل «جلال الدين»، إلا أنه تمكن من الفرار بأتباعه عبر الصحراء إلى «غزنة»، التى كان هو واليها فى عهد أبيه، ويعرفه الناس هناك ويحترمونه ويقدرون كفاءته العسكرية وأعماله البطولية. 

 واستطاع هناك تكوين جيش كبير بلغ ثلاثين ألف مقاتل، وانضمت إليه الفلول التى كانت هاربة من المغول، وبذلك ألحق هزيمة كبيرة بمقدمة أرسلها المغول للبحث عنه فى هذه المنطقة فى سنة (618هـ. 

) خشى «جنكيزخان» أن يتسع نفوذ «جلال الدين» فأرسل جيشًا كبيرًا بقيادة أحد كبار القادة المغول لمحاربته، فالتقى الجيشان بالسهول القريبة من «بروان»، واستطاع «جلال الدين» أن يلحق هزيمة ساحقة بالجيش المغولى، وسمع الناس بذلك ففرحوا فرحًا شديدًا، وثار أهالى «هراة» فى وجه رئيس الحامية المغولى وقتلوه هو وجنوده، فبعث «جنكيز» بابنه «تولوى» إلى هذه المدينة، فدمرها وقتل جميع سكانها، وخرج «جنكيز» بنفسه على رأس جيش كبير لملاقاة «جلال الدين»، فى الوقت الذى حدث فيه خلاف بين اثنين من قادة «جلال الدين» على توزيع الغنائم، وانسحب أحدهما بجنوده تاركًا «جلال الدين» فى هذه الظروف الحرجة، فاضطر إلى الانسحاب بجنوده صوب بلاد «الهند» - حين سمع بقدوم المغول- ولكن «جنكيز» أدركه، ودارت بينهما معركة حامية؛ أبلى فيها «جلال الدين» بلاءً حسنًا، ولكن جيش «جنكيز» كان أقوى عدة وأكثر عددًا فأدرك «جلال الدين» أنه لا فائدة من القتال، وانطلق صوب «نهر السند» وعبره بجنوده، فلم يصل منهم إلى الجانب الآخر من النهر إلا أربعة آلاف فارس، وبقى «جلال الدين» فى بلاد «الهند» بضع سنوات (618 - 622 هـ)، ثم عاد بعدها إلى إيران. 

 وفاة جنكيزخان وتقسيم الإمبراطورية المغولية

بعد أن سيطر «جنكيزخان» على كل المنطقة الشرقية من العالم الإسلامى، وعين عليها ولاة من قِبَله؛ عاد إلى بلاده، ثم تُوفى فى سنة (624هـ)، فعقد المغول مجلسًا عاما للمشاورة فيمن يخلفه على العرش، واتفقوا على أن يتولى العرش «تولوى» أصغر أبنائه، ثم قسمت - بعد ذلك - الأراضى التى سيطر عليها المغول بين أبناء «جنكيز» الأربعة: جوجى: واختص بالجزء الواقع «جنوب روسيا» الحالية، ويبدأ من جنوب «بحر قزوين» فى الغرب حتى سواحل «نهر آرتش» فى الشرق، وكان اسم هذه البلاد «القبجاق»، وعرف أبناء «جوجى» باسم «القبيلة الذهبية» نسبة إلى المخيمات التى اتخذوها لأنفسهم بلون الذهب. 

 جغتاى: واختص بالقسم الذى يضم بلاد «الأويغور» ومنطقة بلاد ما وراء النهر. 

 أوكتاى: واختص بجزء صغير فى غربى منغوليا. 

 تولوى: واختص بالمنطقة الأصلية التى عاش فيها المغول. 

 ثم ما لبث المغول أن اختاروا «أوكتاى» إمبراطورًا أعظم للمغول فى سنة (626هـ). 

 المرحلة الثانية من كفاح جلال الدين: انتهز «جلال الدين» فرصة انشغال المغول عن البلاد الفارسية بعد وفاة «جنكيز» وانطلق بجيشه نحو «إيران»، وعبر «نهر السند»، ودخل فى حروب عديدة مع مَن رآهم سببًا فيما حلَّ بالدولة الخوارزمية، فحارب «الأتابكة» فى «فارس» و «كرمان» و «يزد»، ثم حارب الخليفة العباسى، وانتصر عليهم جميعًا، ولكن مجموعة من الولاة الذين يحكمون بلاد «ما وراء النهر» بقيادة «الملك الأشرف الأيوبى» فى «الموصل»، تمكنوا من إلحاق الهزيمة بجلال الدين، فاستغل «الإسماعيلية» الفرصة وأرسلوا إلى «أوكتاى» إمبراطور المغول يخبرونه بأن الحلف العربى هزم «جلال الدين»، وقد أقدم «الإسماعيلية» على ذلك لأن «جلال الدين» حاربهم من قبل وانتصر عليهم، فجرد «أوكتاى» جيشًا كبيرًا قوامه (50) ألف جندى بقيادة أشهر قواده «جرماغون»، الذى تمكن من مطاردة «جلال الدين» وتفريق جيشه، ففر «جلال الدين» فى سنة (628هـ) إلى «الجبال الكردية» الواقعة فى منطقة «جبال بكر»، فقتله هناك أحد الأكراد حين عرف أنه السلطان، ثأرًا لمقتل أخيه على يد جيش «جلال الدين» فى إحدى الحروب.



غزو هولاكو لغرب إيران وقضاؤه على الخلافة العباسية: هولاكو والإسماعيلية: بعد سلسلة من الصراعات على السلطة بين أمراء البيت الملكى، انتقل الحكم إلى بيت «تولوى بن جنكيزخان، وتولى «منكوقا آن بن تولوى» الحكم فى سنة (648هـ)، وعمل منذ تسلم أمور الحكم على تنفيذ التوجهات التوسعية التى كانت تضطرم بها نفوس المغول، فأرسل أخاه «قوبيلاى» على رأس جيش كبير للسيطرة على جنوب «الصين» ومنطقة «جنوبى شرق آسيا»، وأرسل أخاه الأصغر «هولاكو» إلى «إيران» وبقية العالم الإسلامى للسيطرة عليها، وحدد له هدفين هما: 

 1 - القضاء علىالإسماعيلية. 

 2 - القضاء على الخلافة العباسية. 

 تحرك «هولاكو» من «سمرقند» فى سنة (653هـ) وأرسل طليعة جيشه لاستكشاف قلاع «الإسماعيلية» ومهاجمة بعضها؛ حيث كان «الإسماعيلية» يقيمون قلاعهم على قمم الجبال، بحيث يصبح مهاجموهم تحت سيطرتهم مباشرة، فإذا ما هاجمهم جيش أرسلوا عليه وابلا من السهام والحجارة لإعاقة حركته، ومنعه من الصعود، فلا يصل إليهم، وكانت أهم هذه القلاع التى يحتفظون فيها بالمؤن الكثيرة، قلاع: «الموت»، و «ميمون در»، و «لنبهْ سر» وكَردكوه. 

 أرسل «هولاكو» قائده «كيتبوقا نوين» لفتح قلعة «كَردكوه» فاستعصت عليه، فسار «هولاكو» بنفسه لفتحها فى أواخر سنة (653هـ)، إلا أنه لم يتمكن منها، وفتح بعض القلاع الصغيرة، فحل به وبجنوده اليأس، خاصة وقد حل شتاء سنة (654هـ)، وقلت الأغذية، وتعرضت جيوشه للهجمات الفدائية التى قتلت الكثيرين من الجنود، فعمد «هولاكو» إلى الحيلة وسياسة الترغيب والترهيب، فنجحت حيلته، وبعث إليه «ركن الدين خورشاه» ملك «الإسماعيلية» برسالة يعلن فيها استعداده للتسليم، فوافقه «هولاكو» وأمَّنه، وسلم «خورشاه» نفسه فى سنة (654هـ) وقتله المغول بعد فترة قصيرة، ثم سيطروا على قلاع «الإسماعيلية» وأطرافها، واتخذ «هولاكو» من الفيلسوف والعالم الفلكى الرياضى «نصر الدين الطوسى» الذى كان يعيش مع «الإسماعيلية» فى قلاعهم؛ مستشارًا له ووزيرًا. 

 هولاكو وسقوط الخلافة العباسية: بعد أن قضى «هولاكو» على «الإسماعيلية»؛ توجه بجيش كبير نحو الغرب، وبعث برسالات التهديد إلى الخليفة العباسى؛ فرد عليه بالأسلوب نفسه اعتقادًا منه أن حكام الدول الإسلامية سيقفون إلى جواره فى صد الخطر المغولى عن رمز العالم الإسلامى، فاستشار «هولاكو» «نصر الدين الطوسى» فزين له الهجوم على «بغداد»، فحاصرها فى شهر المحرم سنة (656هـ)، فخرج «الدواتدار» قائد الجيش العباسى على رأس قوة كبيرة فى محاولة لفك الحصار المغولى، فخدعه المغول وأوهموه أنه انتصر عليهم، وأخذوا يتراجعون إلى الخلف، فتوغل بجنوده بعيدًا عن أسوار «بغداد»، فأطبق عليه المغول من كل جانب وحاصروه وفتكوا بجنوده، وتمكن من الفرار بأعجوبة مع عدد قليل من جنوده، وعاد بهم إلى بغداد. 

 عمد «هولاكو» إلى إغراء الخليفة العباسى «المستعصم بالله» بالوعود الكاذبة، فسلم الخليفة نفسه وأهله وأمواله إلى «هولاكو»، فأمر بقتله؛ ثم دخل المغول «بغداد»، واستباحوها، وهدَّموا أكثر مبانيها، وقتلوا نحو مليون شخص، وجمع المغول كل الكتب والمخطوطات التى كانت موجودة بمكتبة «بغداد»، وألقوها فى «نهر دجلة» لتكون جسرًا يتمكن الجنود بواسطته من عبور النهر إلى الجانب الآخر، وهكذا سقطت «بغداد» بعد أن ظلت أكثر من خمسة قرون (132 - 656هـ) حاضرة المسلمين، ومنارة العلم والحضارة للعالم الإسلامى، وترتب على ذلك انتقال مركز الخلافة من «بغداد» إلى «مصر» فى سنة (659هـ)، وفقدت اللغة العربية سيادتها فى «إيران» والمشرق الإسلامى، وعادت الفارسية ثانية واحتلت الرقعة العلمية والثقافية فى هذه البلاد، كما كان لسقوط «بغداد» رنة فرح شديدة عند النصارى، الذين أشادوا بهولاكو وهللوا له؛ لأنه خلصهم من منافسهم الخطير المتمثل فى الخلافة الإسلامية، غير أنهم ندموا على سقوط هذه الخلافة بعد ذلك، حين تبين لهم سماحة المسلمين فى المعاملة ووفاؤهم بالعهد، وهذه الصفات لم يكن المغول يتمتعون بها، ولايعرفون عنها شيئًا. 

 هزيمة المغول فى عين جالوت

 توقف «هولاكو» ببغداد فترة، ثم أرسل جيشًا بقيادة قائده «كيتبوقا» (أو «كتبغا» كما يسميه المؤرخون العرب) للسيطرة على «فلسطين» و «مصر» فى سنة (658هـ)، وكان يحكم «مصر» - آنذاك- «سيف الدين قطز»، وعلم بمقدم المغول، فتأهب بجيشه بقيادة «ركن الدين بيبرس» (الظاهر بيبرس البندقدارى) للدفاع عن «فلسطين»، والتقى بجيش المغول فى منطقة «عين جالوت» فى رمضان سنة (658هـ)، وأسفرت المعركة عن هزيمة منكرة لحقت بالمغول، لأول مرة منذ عهد السلطان «جلال الدين الخوارزمى»، وتم أسر قائد الجيش المغولى «كتبغا» ثم قتله، فكان لهذه المعركة عدة نتائج من أهمها: أنها حالت دون تقدم المغول إلى «مصر»، وقضت على خرافة الجيش المغولى الذى لا يُقهر، وتبدو أهمية هذه المعركة إذا ما تصورنا أن الهزيمة هى التى حلَّت بالمسلمين، فلا شك أن المغول كانوا سيقضون على آخر معقل للإسلام فى فلسطين ومصر.



وأدى نجاح المصريين فى هذه المعركة إلى إدراك الأهمية الكبرى للوحدة بين «مصر» وبلاد الشام، وإلى توطيد العلاقات بين المماليك فى «مصر» والشام وحكام منطقة «القبجاق»، الذين كان يحكمهم -آنذاك- «بركة خان بن جوجى بن جنكيزخان»، الذى اعتنق هو ورعيته الإسلام، وطلب العون من المماليك فى «مصر»، لكى يقفوا إلى جانب بلاده ضد «المغول الإيلخانيين» الذين كانوا يحكمون «فارس»، ولاشك أن هذه المعركة أكسبت «القاهرة» مكانة ممتازة فى الجانب السياسى، إلى جانب ما كانت تتمتع به من مكانة حضارية وثقافية وعلمية. 

 ولقد ارتد المغول على أعقابهم بعد ذلك وانحصر مدهم، وتقلص نفوذهم حتى حدود منطقة «العراق»، وانشغل «هولاكو» بالحروب الكثيرة التى دخلها مع «بركة خان»، ولم يستطع أن يتفرغ للثأر من المصريين الذين هزموه فى «عين جالوت»، حتى مات فى سنة (663هـ)، بعد أن عين «شمس الدين محمد الجوينى» وزيرًا، وعهد إلى أخيه «علاء الدين الجوينى» بحكم «بغداد». 

 وظل المغول فى حدود منطقة «العراق» حتى أقاموا دولتهم الجديدة التى عُرفت باسم «الدولة الإيلخانية» فى «إيران» و «العراق» وآسيا الصغرى.

  نشاة الامبراطوولية رية المغولية-التاريخ





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-