نسبه ونشأته
هو «على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف»، وأمه «فاطمة بنت أسد بن هاشم»، وهى أول هاشمية ولدت هاشميًّا، وقد أسلمت وهاجرت إلى «المدينة»، وهو ابن عم النبى - صلى الله عليه وسلم -، وتربى فى بيته، لأن أباه كان كثير العيال قليل المال، فأراد النبى أن يخفف عن عمه أعباء المعيشة، فأخذ «عليًّا» ليعيش معه فى بيته، وكان عمره يومئذٍ ست سنوات، فشاءت إرادة الله أن ينشأ «على» فى بيت النبوة، فوقاه الله أرجاس الجاهلية، فلم يسجد لصنم قط، وكان أول من أسلم من الصبيان.
صفته
كان «على بن أبى طالب» ربعة من الرجال، يميل إلى القصر، أسمر اللون، حسن الوجه واسع العينين، أصلع الرأس، عريض المنكبين، غزير اللحية، قوى الجسم.
عُرف «على بن أبى طالب» بالشجاعة والعلم الغزير، والزهد فى الدنيا مع القدرة عليها، وكان واحدًا ممن حفظوا القرآن كله من الصحابة، وعرضوه على النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومن أكثرهم معرفة بالقرآن وبتفسيره وأسباب نزوله، وأحكامه، وكان من كتاب الوحى، ولذا اختص فى سيرته بلقب «الإمام» لأفضليته العلمية والفقهية، وكان أقضى الصحابة رضى الله عنهم جميعًا، واشتهر بالفصاحة والخطابة وقوة الحجة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد تآخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع على بعد الهجرة، ثم زوجه ابنته «فاطمة»، وأنجب منها «الحسن» و «الحسين»، وهما اللذان حفظا نسل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
شهد «على» المشاهد كلها -عدا تبوك - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان فى طليعة من صرعوا المشركين فى «بدر»، وواحداً من الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى غزوة «أحد»، وحمل اللواء عندما سقط من يد «مصعب بن عمير» بعد استشهاده، حمله بيده اليسرى، وظل يقاتل بيده اليمنى، وصرع فى غزوة الخندق «عمرو بن عبد ود» فارس «قريش» والعرب كلها عندما لم يقدم أحد على مبارزته وأعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم «خيبر»، وقال: «لأعطين اللواء غدًا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»، وأخبر أن الفتح سيكون على يديه، وتحقق ذلك، وثبت مع من ثبتوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى «حنين».
وفى غزوة «تبوك» خلفه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أهله يرعى مصالحهم وشئونهم، ولما تأذى من ذلك، وقال: يارسول الله، تخلفنى فى النساء والصبيان؟!، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: «أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبى بعدى؟»، إشارة من النبى إلى أن «موسى» عندما ذهب لمناجاة ربه، ترك أخاه «هارون»، خلفًا له فى قومه، كما جاء فى قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.
[الأعراف:142].
وكان رضى الله عنه موضع ثقة واحترام من الصحابة جميعًا، فكان من أكبر أعوان «أبى بكر الصديق» فى قمع حروب الردة، ولازم «عمر بن الخطاب»، فكان لا يقطع أمرًا دون مشاورته، والاستنارة برأيه، وكان «عمر» يقول: «قضية ولا أبا حسن لها».
وعاون «عثمان» بالرأى والمشورة مثلما كان يفعل مع «أبى بكر» و «عمر»، فلم يحجب عنه نصحه ومؤازرته فى الفتنة التى أطبقت على الأمة، وأرسل أولاده مع بقية أولاد الصحابة لحراسته والدفاع عنه، ثم ذهب بنفسه لمواجهة الأشرار.
بيعته بالخلافة
رُوِّعت «مدينة» رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقتل أمير المؤمنين «عثمان بن عفان» - رضى الله عنه - وعم الناس الهلع والرعب، لهذه الجريمة التى أقدم عليها هؤلاء الأشرار.
سيطر الثائرون على «المدينة»، وظل «الغافقى بن حرب» زعيم ثوار «مصر»، وأحد كبار زعماء الفتنة يصلى بالناس إمامًا فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أيام، والدولة كلها بدون خليفة، ولم يكن فى وسع أحد من الثوار أن يرشح نفسه لها، لأنهم يعلمون أن هذا الأمر يخص المهاجرين وحدهم.
وبدأ الثائرون يعرضون منصب الخلافة على كبار الصحابة: «على بن أبى طالب»، و «طلحة بن عبيد الله»، و «سعد بن أبى وقاص»، و «الزبير بن العوام»، و «عبدالله بن عمر بن الخطاب»، فرفضوا جميعًا، وسماهم «على بن أبى طالب» الثائرين ولعنهم على فعلتهم الشنعاء، فهددهم الثائرون بقتلهم جميعًا كما قتلوا «عثمان» إن لم يقبل أحدهم منصب الخلافة.
وفى مثل هذه الظروف العصيبة كان لابد من رجل شجاع غير هياب، يتقدم الصفوف لحمل الأمانة وسط الأخطار المحدقة بها، واتجهت الأنظار إلى «على بن أبى طالب»، وتعلقت به الآمال، ترجوه تحمل المسئولية، وقيادة الركب إلى بر الأمان، وألح عليه كبار الصحابة إلحاحًا شديدًا لتولى المنصب الشاغر، منصب الخلافة الجليل، فقبل تجشم تبعاتها فى هذه الظروف الدقيقة، وكان قبوله لها ضربًا من ضروب الفروسية والشجاعة، والاحتساب عند الله، والنزول على رغبة كبار الصحابة.
كان «على بن أبى طالب» هو أول خليفة يخطب قبل البيعة، وكانت خطبة قصيرة، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم أنهم هم الذين ألحوا عليه تقبل أمرٍ كان له كارهًا، لتبعاته ومسئولياته، فلما وافقوا بايعوه، ولهذا كان عليه أن يخطب مرة أخرى خطبة يوضح فيها أسلوبه فى الحكم، فقال: «إن الله أنزل كتابًا هاديًا، بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإن من خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم، اتقوا الله عباد الله فى بلاده وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله فلا تعصوه {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض}».
[الأنفال: 26].
خطبة قصيرة مناسبة للمقام وللظرف الذى قيلت فيه، فقد بدأها بالتذكير بالله، وحث المسلمين على عمل الخير وتجنب الشر، وحذرهم حرمات الله والوقوع فيها، وأهمها حرمة دم المسلم، ولعله بذلك يعرض بقتلة «عثمان» ويحدد موقفه من هذه الفعلة الشنعاء، وأنه لن يتساهل فى القصاص منهم، وإقامة الحد عليهم.
على والقرارات الصعبة
تمت بيعة «على بن أبى طالب» فى اليوم الخامس والعشرين من شهر ذى الحجة سنة (35 هـ)، فاستقبل بخلافته عام (36هـ)، وكان عليه أن يواجه الموقف العصيب، الذى نتج عن استشهاد أمير المؤمنين «عثمان بن عفان»، باتخاذ قرارات صعبة تجاه عدد من المعضلات، التى كان أولها: - القصاص من قتلة «عثمان» - رضى الله عنه - وكان ذلك مطلب الصحابة، ففى أول يوم من خلافته ذهب إليه «طلحة» و «الزبير»، وطالباه بإقامة الحد على القتلة، وكان هو مقتنعًا بذلك، ولذلك قال لهما: «يا إخوتاه إنى لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم -أى يعيشون بينكم - يسومونكم ماشاءوا - أى يسيطرون عليكم - فهل ترون موضعًا لقدرة على شىء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه أبدًا».
ويتضح من هذا أن «على بن أبى طالب» لم يكن أقل من غيره حرصًا على إقامة الحد على قتلة «عثمان»،ولكن الظرف الذى هم فيه لا يمكنه من ذلك، فإذا كان الذين نفذوا القتل فى «عثمان» عددًا محدودًا، وهم «الغافقى بن حرب»، ومعه «سودان بن حمران» و «كنانة بن بشر التجيبى»، فإن وراءهم نحو عشرة آلاف من الثوار الذين ضللوهم، وهم مستعدون للدفاع عنهم، ولذلك عندما كانوا يسمعون قائلا يقول: من قتل «عثمان»؟ كان هؤلاء جميعًا يصيحون: نحن جميعًا قتلناه، ولذا كان رأى الإمام التريث حتى تهدأ الأمور، ويعود الناس إلى بلادهم، حتى يتمكن من التحقيق فى الأمر وإقامة الحد، وقد اقتنع الصحابة بهذا الحل، لكن الأمور تطورت تطورًا آخر على غير ما يهوى الجميع.
- وتغيير كل ولاة «عثمان» على الولايات الكبرى: «مصر» و «الشام»، و «الكوفة»، و «البصرة» حتى تهدأ الفتنة.
وقد اتخذ «على» بالفعل قرارًا بذلك، فعزل «معاوية بن أبى سفيان» عن الشام، وعين بدلا منه «سهل بن حنيف»، وعزل «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» عن «مصر» وعين بدلا منه «قيس بن سعد بن عبادة»، وعزل «عبدالله بن عامر» عن «البصرة» وعين بدلا منه «عثمان بن حنيف»، وعزل «أبا موسى الأشعرى» عن «الكوفة»، وعين بدلا منه «عمارة بن شهاب».
وهذا القرار الخطير راجعه فيه أقرب الناس وأخلصهم له، ابن عمه «عبدالله بن عباس»، ونصحه بالانتظار فترة ولو لمدة سنة، لتكون الأمور قد هدأت واستقرت، ويتم التغيير فى ظرف مناسب، لكن الإمام أصر على تنفيذ قراره محتجًا بأن هؤلاء الثوار ثاروا غضبًا من ولاة «عثمان»، سواء أكانوا مخطئين أم مصيبين، ولن تهدأ ثورتهم إلا إذا عُزِلوا.
وإزاء إصرار على - رضى الله عنه - على تنفيذ قراره، اقترح «ابن عباس» أمرًا آخر، بأن يعزل من يشاء من الولاة، ويُبقى «معاوية» على ولاية الشام، وكان اقتراحًا ذكيًا وجيهًا، فمعاوية لم يكن موضع شكوى أحد من رعيته، ولم يشترك أهل الشام فى الثورة على «عثمان» وقتله، وعلى هذا فلو أقره علىّ فى ولاية الشام، فلن يلومه أحد، وكان «ابن عباس» يعرف من ناحية أخرى أن «معاوية» لن يذعن لقرار العزل، وسيبقى فى لايته، مسببًا متاعب كثيرة، ومع هذا صمم الإمام «على بن أبى طالب» على عزل ولاة «عثمان» جميعًا بما فيهم «معاوية».
بدأ الولاة الجدد يتجهون إلى ولاياتهم لمباشرة أعمالهم، فذهب «قيس بن سعد» إلى «مصر»، ودخلها بدون متاعب؛ لأن واليها القديم «عبدالله بن سعد» تركها منذ علمه بمقتل «عثمان»، وذهب إلى «فلسطين»، واعتزل الفتنة، وبقى هناك حتى مات فى مدينة
وكذلك دخل «عثمان بن حنيف» «البصرة»، وتولى شئونها بدون مشاكل؛ لأن واليها «عبدالله بن عامر» كان قد تركها وذهب إلى «مكة».
أما «عمارة بن شهاب» فلم يمكنه أهل «الكوفة» من دخولها، وتمسكوا بواليهم «أبى موسى الأشعرى»، فوافق الإمام «على» على ذلك، وأقر عليهم «أبا موسى الأشعرى».
وكذلك لم يستطع «سهل بن حنيف» دخول الشام، فقد منعه «معاوية بن أبى سفيان»، رافضًا قرار العزل.
وهنا لم يعامل الإمام «على» الشام معاملة «الكوفة»، فإنه رفض إقرار «معاوية» فى ولاية الشام، مع أن تمسك أهلها به كان أشد من تمسك أهل «الكوفة» بأبى موسى الأشعرى.
بين على ومعاوية
دارت مراسلات عديدة بين «على» و «معاوية» - رضى الله عنهما - يطلب الأول من الآخر مبايعته بالخلافة، والإذعان لأوامره، باعتباره الخليفة الشرعى الذى بايعه معظم الصحابة فى «المدينة»، على حين يطلب الثانى من الأول القصاص من قتلة «عثمان»، باعتباره ولى دمه، لأنه ابن عمه، وبعدها ينظر فى بيعته.
ولم تكن وجهة نظر الإمام فى قضية القصاص رافضة، لكنه كان يرغب فى تأجيلها حتى تتهيأ الظروف المناسبة، ولكن «معاوية» تمسك بالقصاص أولا، وجعله شرطًا لازمًا يسبق البيعة.
ولما لم تؤد الاتصالات بينهما إلى نتيجة، وصلت رسالة من «معاوية» إلى «على» تتضمن جملة واحدة، هى: «من معاوية إلى على»، بعثها «معاوية» بيضاء مع رجل يدعى «قبيصة» من «بنى عبس»، وأمره أن يدخل بها «المدينة»، رافعًا يده حتى يراها الناس، ويعلموا أن «معاوية» لم يبايع «عليًّا»، إذ يخاطبه باسمه فقط دون أن يصفه بأمير المؤمنين.
وأدرك علىٌّ رضى الله عنه- أن حمل معاوية على البيعة سلمًا غير ممكن، فأخذ يعد العدة لحمله على البيعة بالقوة، باعتباره خارجًا على طاعة الخليفة، على الرغم من أن كثيرين نصحوه بعدم اللجوء إلى الحرب لعواقبها الوخيمة، ومن بينهم ابنه «الحسن» لكن الإمام «على» أصر على موقفه، وبينما هو يستعد لذلك، جاءته أخبار أخرى مفزعة من «مكة»، تخبره بمسير «عائشة» وجماعتها إلى «البصرة».
موقعة الجمل (36هـ)
كانت أم المؤمنين «عائشة» - رضى الله عنها - عائدة من أداء فريضة الحج، وسمعت بمقتل «عثمان»، فعادت من الطريق إلى «مكة»، وأعلنت سخطها على قتله، وأخذت تردد «قُتل والله عثمان مظلومًا لأطلبن بدمه»، ثم وافاها فى «مكة» «طلحة» و «الزبير» - رضى الله عنهما - و «بنو أمية»، وكل من أغضبه مقتل «عثمان»، وراحوا يتباحثون فى الأمر، وهداهم تفكيرهم إلى تجهيز جيش للأخذ بالثأر من قتلة «عثمان» والسير به إلى «البصرة»، باعتبارها أقرب بلد إليهم من البلاد التى اشترك أهلها فى الثورة على «عثمان» وقتله، وكان هذا اجتهادًا منهم مجانبًا للصواب، لأنهم بهذا العمل كأنهم أقاموا حكومة أخرى غير حكومة الإمام، المبايع شرعًا من الأمة، والمنوط به وحده إقامة الحدود والقصاص من القتلة، وربما كان الأفضل من هذا أن يتوجهوا إلى «المدينة»، ليشدوا من أزر الخليفة فى هذا الوقت العصيب الذى تمر الأمة به، ويتشاوروا معه فى إيجاد طريقة لحل المشكلات التى تواجهها الأمة.
وصلت أخبار سير «عائشة» ومن معها إلى «على» وهو يتأهب للخروج إلى الشام لقتال «معاوية»، فاضطر إلى تغيير خطته، فلم يعد ممكنًا أن يذهب إلى الشام، ويترك هؤلاء يذهبون إلى «البصرة»، فاستعد للذهاب إلى هناك.
خرجت السيدة «عائشة» - رضى الله عنها - ومعها فى البداية نحو ألف رجل لكن هذا العدد تضاعف عدة مرات، بانضمام كثيرين إلى الجيش، نظرًا إلى مكانة «عائشة»، فلما اقتربوا من «البصرة»، أرسل واليها «عثمان بن حنيف» إلى أم المؤمنين «عائشة» رسولين من عنده، هما «عمران بن حصين» و «أبو الأسود الدؤلى» يسألانها عن سبب مجيئها.
فقالت لهما: «إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا لعنة الله ورسوله، مع مانالوا من قتل إمام المسلمين، بلا ترة ولا عذر، فخرجت فى المسلمين، أعلمهم ما أتى هؤلاء».
وكذلك سأل الرسولان «طلحة» و «الزبير» - رضى الله عنهما - عن سبب مجيئهما، فقالا: «الطلب بدم عثمان»، فرجع الرجلان وأخبرا «عثمان بن حنيف»، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحى الإسلام ورب الكعبة»، وأصرَّ على منعهم من دخول «البصرة»، فدارت بينه وبينهم معركة عند مكان يُسمى «الزابوقة» قُتل فيها نحو ستمائة من الفريقين، فلما رأوا كثرة القتلى تنادوا إلى الصلح والكف عن القتال، وانتظار قدوم الإمام «على» إلى «البصرة»، وتم الصلح على أن يتركوا للوالى دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وينزلوا هم فى أى مكان بالبصرة.
وصول «على» إلى البصرة
وصل «على» إلى «البصرة» وعلم بما حدث من سفك الدماء وهاله ذلك، فأرسل على الفور «القعقاع بن عمرو التميمى» إلى معسكر «عائشة» و «طلحة» و «الزبير»، ليعرف ماذا يريدون، فقالت «عائشة» - رضى الله عنها -: «خرجنا لنصلح بين الناس»، وكذلك قال «طلحة» و «الزبير»، فسألهم «ما وجه الإصلاح الذى
تريدون»، قالوا: «قتلة عثمان»، قال: «لقد قتلتم ستمائة من قتلة عثمان، فغضب لهم ستة آلاف من قبائلهم، وكنتم قبل ذلك أقرب إلى السلامة منكم الآن»، قالوا: «فماذا ترى أنت؟»، قال: «أرى أن هذا الأمر دواؤه التسكين»، واقترح عليهم تجديد البيعة لعلى، ومقابلته، والتفكير بعد ذلك فيما يصلح المسلمين، فقبلوا.
ومعنى ذلك أن الجميع كانوا راغبين، فى الإصلاح، كل على حسب اجتهاده، لكن عناصر الشر التى كانت لاتزال فى معسكر «على» هى التى أفسدت السعى الذى قام به «القعقاع».
أتباع ابن سبأ يفسدون الصلح ويبدءون المعركة
كانت نقطة الضعف التى فى معسكر الإمام «على» هى وجود كثيرين ممن اشتركوا فى قتل «عثمان» والتخطيط له، وعلى رأسهم «عبدالله بن سبأ»، و «الأشتر النخعى»، ولم يكن لعلى حيلة فى وجودهم معه، ولا قدرة على إبعادهم، لكونهم قوة كبيرة تساندهم عصبات قبلية، وقد أدرك زعماؤهم الذين تولوا كبر الثورة على «عثمان» أن الصلح بين الفريقين سيجعل «عليًّا» يتقوى بانضمام الفريق الآخر إليه، ويقيم الحد عليهم باعتبارهم قتلة «عثمان»، فعزموا على إفساد الأمر كله.
وترتب على هذا العزم أن عقد «ابن سبأ» لهم مؤتمرًا تدارسوا فيه الأمر، فاقترح «الأشتر» أن يقتلوا «عليًا» كما قتلوا «عثمان» من قبل، فتهيج الدنيا من جديد، ولا يقدر عليهم أحد، لكن هذا الاقتراح لم يعجب «ابن سبأ»، فهو يريد أن يدخل الأمة كلها فى حرب طاحنة، لا أن يقتل فرد واحد وإن كان خليفة المسلمين، فأمرهم بشن هجوم فى ظلام الليل على جيش «عائشة» و «طلحة» و «الزبير»، بدون علم الإمام «على»، فاستجابوا لرأيه، وبينما الناس نائمون مطمئنون بعد أن رأوا بوادر الصلح تلوح فى الأفق، إذا بهم يفاجئون بقعقعة السلاح، وكانت هذه هى بداية حرب «الجمل» المشئومة التى راح ضحيتها خيرة الصحابة «طلحة» و «الزبير» المبشران بالجنة، ونحو عشرين ألفًا من المسلمين.
أسباب خروج عائشة ومن معها
لم تكن أم المؤمنين «عائشة»، ولا «طلحة» ولا «الزبير» ولا أمير المؤمنين «على» يريدون سفك الدماء، ولا يتصورون حدوث ذلك، وكل ما دفع السيدة «عائشة» ومن معها إلى الخروج إنما هو اقتناعهم بأن «عثمان» قُتل مظلومًا، وعليهم تقع مسئولية إقامة الحد على قتلته، ولم يكونوا أبدًا معادين لعلى، أو معترضين على خلافته، وقد رأينا ميلهم جميعًا إلى الصلح، لولا أن أتباع «ابن سبأ» (السبئية) أفسدوا كل شىء وأشعلوا الحرب، ولقد ندمت السيدة «عائشة» ندمًا شديدًا على ماحدث، وقالت: «والله لوددت أنى مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة».
وخلاصة القول أن تبعة هذه المأساة تقع على عاتق «السبئية»، فهم الذين أشعلوا الفتنة من البداية، وقتلوا خليفة المسلمين ظلمًا، وأشعلوا حرب «الجمل»، أما الصحابة، فقد وصف «ابن خلدون» موقفهم وصفًا دقيقًا، فقال: «وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت القوم أجمعين، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة» معركة صفين: بعد معركة «الجمل» توجه «على ابن أبى طالب» بجيش يبلغ عدده نحو مائة ألف إلى «صفين»، واستعد «معاوية» لمقابلته بجيش يقاربه فى العدد، ودارت بينهما معركة شرسة فى شهر صفر سنة (37هـ) قُتِل فيها من الجانبين نحو سبعين ألفًا، خمسة وعشرين ألفًا من جيش «على»، وخمسة وأربعين ألفًا من جيش «معاوية»، ولما رأى الناس كثرة القتلى من الجانبين تنادوا يطلبون وقف القتال، فجعل أهل «العراق» (جيش «على») يصيحون فى أهل الشام (جيش «معاوية») قائلين: من لثغور «العراق» إن فنى أهل «العراق».
ويرد الآخرون: من لثغور الشام إن فنى أهل الشام.
ومن هنا جاءت فكرة التحكيم.
التحكيم
رفع جيش «معاوية» المصاحف للاحتكام إليها، ووقف القتال فورًا، بدلا من سفك الدماء، وكانت فكرة التحكيم من عند «عمرو بن العاص»، وقد قبلها الطرفان، وأوقفت الحرب، بعد أن فزع الناس لكثرة عدد القتلى.
أوقفت الحرب، وطلب من «على» و «معاوية» أن ينيب كل منهما شخصًا يتفاوض باسمه، للفصل فى القضايا محل الخلاف، فأناب «معاوية» «عمرو بن العاص»، وأناب «على» «أبا موسى الأشعرى» على كره منه وذلك فى شهر صفر (37هـ) وكان «على» قد حاول أن ينيب عنه «عبدالله بن عباس»، لكن أنصاره، وبخاصة من أبناء «اليمن» بزعامة «الأشعث بن قيس»، رفضوا ذلك بحجة عصبية، وأعلنوها صراحة، كيف يكون الخلاف بين رجلين من «قريش»، ثم يكون الحكمان رجلين من «قريش» أيضًا، لقد حسدوا قريشًا على زعامتها للدولة الإسلامية التى استحقتها بسابقتها فى الإسلام، لا بنسبها فقط.
واتفق على أن يأخذ الطرفان مهلة مدتها ستة أشهر، تهدأ فيها النفوس، ويجتمع الحكمان للتباحث والوصول إلى حل، وبعد مفاوضات طويلة وصل الحكمان إلى نتيجة رأياها أفضل الحلول، وهى عزل «على» -رضى الله عنه- عن الخلافة، ورد الأمر إلى الأمة تختار من تشاء، أما التصرف العملى فى إدارة البلاد التى كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين، فيبقى كما كان: «على» يتصرف فى البلاد التى تحت حكمه (وهى كل الدولة الإسلامية عدا الشام) و «معاوية» يتصرف فى البلاد التى تحت حكمه (الشام).
موقف على وأنصاره من التحكيم
اجتهد الحكمان فيما توصلا إليه، وأعلناه على الناس، غير أن «عليًّا» - رضى الله عنه - لم يقبل تلك النتيجة، واعتبر الحكمين قد تجاوزا حدودهما؛ لأن الخلاف لم يكن على منصب الخلافة، وإنما على إقامة الحد على قتلة «عثمان»، وبيعة «معاوية» له، أيهما يسبق الآخر، ولذلك عدَّ نفسه فى حل من هذه النتيجة، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل التحكيم، أى إلى حالة الحرب.
ظهور الخوارج
حاول «على» أن يدعو أنصاره إلى حرب «معاوية» من جديد لكنهم كانوا قد ملوا القتال، وتقاعسوا عنه، بل إنهم انقسموا إلى «شيعة» وافقوه على ماصنع «وخوارج» اعتبروا التحكيم كان خاطئًا من أساسه، مع أنهم هم الذين فرضوه عليه، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما هو أكثر تطرفًا، فاتهموا «عليًّا» بالكفر، لأنه حكَّم الرجال فى القرآن، وصاغوا شعارًا أخذوا يرددونه «الحكم لله لا لك يا على»، وكان هو يقول لهم: «كلمة حق أريد بها باطل»، وطالبوه بأن يعلن كفره، ويتوب ويسلم من جديد، حتى يعودوا إليه ويقاتلوا معه، فإذا لم يفعل فسوف يقاتلونه.
الخوراج- التاريخ |
ولا يمكن لمسلم أن يتصور كيف يُكفَّر رجل من صحابة رسول الله المبشرين بالجنة، وممن رضى الله عنهم تحت الشجرة فى «بيعة الرضوان»، وإزاء هذا التطرف من «الخوارج» اضطر الإمام أن يحاربهم فى معركة شهيرة تُسمى معركة «النهروان» بالقرب من «الكوفة»، وبعدها لم يستطع أن يجمع شمل أنصاره لقتال «معاوية» من جديد كما كان يريد، بل أجبرته الظروف على التفاهم والاتفاق معه.
الاتفاق بين على ومعاوية: بعد انقسام جبهة «على» إلى «شيعة» و «خوارج» ازداد موقفه ضعفًا؛ لأن صراعه مع «الخوارج» كبده متاعب جسيمة، وفى الوقت نفسه كان موقف «معاوية» يزداد قوة، وبخاصة بعد أن استطاع الاستيلاء على «مصر» سنة (38هـ)، بجيش قاده فاتحها الأول «عمرو بن العاص»، ونشر قوات له فى أطراف «العراق»، وضم «اليمن» إليه، وأصبحت دولته تتسع بمرور الزمن، فى الوقت الذى تضيق فيه دولة «على».
وانتهى الأمر بأن جرت بينهما مفاوضات طويلة، اتفقا على وضع الحرب بينهما وتكون لعلى «العراق» وبلاد فارس ولمعاوية الشام فلا يدخل أحدهما على صاحبه فى عمله بجيش ولا غارة وتراضيا على ذلك» وهكذا أجبرت الظروف التى تكون أحيانًا أقوى من الرجال «على بن أبى طالب» أن يصالح «معاوية»، ويسلم له بنصف الدولة الإسلامية تقريبًا، يحكمها حكمًا مستقلا، وهو الذى رفض فى بادئ الأمر إبقاءه واليًا على الشام وحدها يأتمر بأمره، وينتهى بنهيه.
إدارة الدولة وتثبيت الفتوحات فى عهده
على الرغم من الظروف الصعبة التى واجهت الإمام «عليًّا» -رضى الله عنه- فإنه أدار الدولة باقتدار وعدالة ونزاهة وتجرد، ولم يقصر فى شأن من شئونها، واتخذ من «الكوفة» عاصمة لدولته منذ أن خرج من «المدينة» إلى «البصرة» وبعد معركة «الجمل»، وظل يحكم منها إلى أن لقى الله، وعهد بإدارة بقية أجزاء دولته إلى أقرب الناس إليه، وأخلصهم له، فجعل «عبدالله بن عباس» واليًا على «البصرة» وأخاه «عبيد الله بن عباس» واليًا على «اليمن»، وأخاهما الثالث «قثم بن عباس» على «مكة» و «الطائف»، وعزل «قيس بن سعد» عن «مصر»، وولى مكانه «محمد بن أبى بكر الصديق».
ولا لوم على «عثمان» و «على» إذا وليا أهل قرابتهما؛ لأن كل واحد منهما اجتهد لمصلحة الأمة، وكان أمينًا عليها، فعهد بإدارة الدولة إلى من رأى أنهم ينفذون سياسته، ولم يولِّ أى منهما أحدًا محاباة أو لقرابة.
ولم تشغل الإمام «عليًّا» مشكلات الدولة الداخلية عن التصدى لمحاولات الانتقاض التى حدثت فى بلاد فارس، فقد حاول الفرس تكرار ما فعلوه بعد استشهاد «عمر بن الخطاب»، فأرسل إليهم «زياد بن أبيه» فى جمع كثير، «فوطئ بهم أهل فارس، وكانت قد اضطرمت، فلم يزل يبعث إلى رءوسهم، يعد من ينصره ويعينه، ويخوّف من امتنع عليه، وضرب بعضهم ببعض، فدل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا، وصفت له فارس، فلم يلقَ منهم جمعًا ولا حربًا».
أما الروم فلم يتحركوا؛ لأن الإمبراطور «قنسطانز» لما عرض عليه بعض قواده أن ينتهزوا فرصة الحروب التى جرت بين «على» وأصحاب «الجمل»، وبينه وبين «معاوية»، ويغيروا من جديد على «مصر» و «الشام»، رفض الإمبراطور معللا ذلك بأن غزوه لمصر والشام سيجعل المسلمين يتصالحون ويتحدون ويقاتلوننا جميعًا، ولن نقوى عليهم، فخير لنا أن نتركهم يقتل بعضهم بعضًا حتى يضعف شأنهم.
استشهاد على رضى الله عنه
جاءت نهاية الإمام «على بن أبى طالب» على يد «الخوارج»، أنصاره السابقين، الذين بلغ بهم الغلو والتطرف حدًا اعتبروا فيه «عليًّا» و «معاوية» و «عمرو بن العاص» أئمة ضلالة، وحمَّلوهم مسئولية ما حدث، وقرروا قتل الثلاثة جميعًا، واتفقوا أن يتم التنفيذ فى وقت واحد، هو فجر اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة (40هـ)؛ تيمنًا بذكرى معركة «بدر» حسب تصور نفوسهم المريضة وعقولهم الفاسدة، وانتدبوا ثلاثة للقيام بهذه المهمة، هم «عبدالرحمن بن ملجم»، و«البرك بن عبدالله»، و «عمرو بن بكر»، على أن يذهب الأول إلى «الكوفة» لقتل «على»، والثانى إلى «دمشق» لقتل «معاوية»، والثالث إلى «مصر» لقتل «عمرو بن العاص».
وشاءت إرادة الله - تعالى - أن ينجو «معاوية» و «عمرو» من القتل، وأن تكون الشهادة من نصيب «على»، حيث ضربه «عبدالرحمن بن ملجم» بسيف مسموم فى جبهته، فشقها فمات من أثر الضربة بعد وقت يسير، بعد أن قضى أربع سنوات وبضعة شهور، لم يذق فيها طعم الراحة، وحاصرته المشكلات والمتاعب، وأنهكته الحروب من كل جانب.
خلافة الحسن بن على(40 - 41هـ)
وبعد وفاة الإمام «على» بايع أنصاره ابنه «الحسن»، وكان «جندب بن عبد الله» قد دخل على الخليفة بعد طعنه وتيقن ألا أمل فى حياته، وسأله: «يا أمير المؤمنين إن فقدناك - ولا نفقدك - أنبايع للحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، ولم يوصِ لأحد من بعده، بل قال لهم: «ولكن أدعو الله - تعالى- أن يجمعكم بعدى على خيركم كما جمعنا بعد نبينا على خيرنا» -يقصد أبا بكر-، مرسخًا بذلك قاعدة الشورى التى اتُبِعَت فى بيعته هو وبيعة الثلاثة الراشدين من قبله.
أراد أنصار «الحسن» أن يتأهبوا لقتال «معاوية» من جديد، لكنه رفض، ورأى عدم جدوى ذلك، بل إنه وقف ضد فكرة اقتتال المسلمين من البداية.
راسل «الحسن» «معاوية» بشأن الصلح، فسر به سرورًا عظيمًا، وجاء إلى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (41هـ)، بعد ستة أشهر من خلافة «الحسن»، وبايعه «الحسن» و «الحسين»، وتبعهما الناس، وبهذا قامت الدولة الأموية رسميًّا، وأصبح «معاوية» خليفة للأمة الإسلامية كلها، ولُقب لأول مرة بأمير المؤمنين، وكان يلقب قبل ذلك بالأمير فقط.
استبشر المسلمون خيرًا بتلك المصالحة، وحمدوا الله على انتهاء الفتنة وسفك الدماء، وسمُّوا ذلك العام «عام الجماعة»، وترك صنيع «الحسن» صدى طيبًا عند جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من علماء أهل السنة، ورأوا فيما فعل تحقيقًا لنبوءة جده محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذى قال «ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».