فقلت : واعجّبا أسواق البصرة عامرة بالناس ، ولم يصحب هذه الجنارة غير أربعة من الرجال ، لاكونن خامسهم ، فسرت معهم حتى أتوا إلى المقبرة ، فقلت لهم : يا قوم أيكم ولي هذا الميت فليصل عليه ؟ فقالوا : كلنا فيه سواء ، فتقدم أنت فصل عليه ، فصليت عليه ووارينا ، التراب ، فقلت لهم : بالله عليكم ، ألا ما صدقتموني بخبر هذا الميت ، فقالوا : ما منا من يعلم خبرا غير أن هذه المرأة أستجرتنا لحمله فالتفت إليها وإذا أنا بامرأة مقبلة ، فجاءت حتى جلست عند القبر ساعة ، ثم قامت وهي تضحك .
فقلت لها : بالله العجب ، امرأة تضحك على قبر ميتها ؟ !!! ، ثم قلت لها : بالله عليكم ، ألا ما أخبرتني مما ضحكت ؟ فقالت : يا هذا ، ما لك وما لا يعنيك ؟ قلت لها أخبريني ، فإني إبان خادم أنس بن مالك خادم رسول الله ، فقالت : يا إبان ، لو لم تكن ذاك مـا أخبرتك بحديث أبداء.
أعلم أن هذا الميت ولدي ، وكان مسرفا على نفسه ، فلما كان البارحة اشتد الأمر به ، فنادی : یا اماه ، فأجبته فقال : سألتك بالله ، إلا ما فعلتي بي ما آمرك به ، فقلت له قل ما بدا لك
فقال : إذا أنا مت فلا تعلمي بي أحدا من جيراني ، وخذي خاتمي هذا ، وانقشي عليه : " لا إله إلا الله محمد رسول الله" ، واجعليه بين جلدي وكفني ، فإذا وضعت في قبري فضعي يدك على ضفيرة شعرك وارفعيها إلى الله وأضرعي إليه أن يغفر لي ، وقولي : إلهي ، قد رضيت عنه فارض عنه ،
ثم قال : يا أماه قومي ثم ضعي رجلك اليمنى على وجهي ، وقولي : هذا جزاء من عصى الله عز وجل ، فقمت والله يا إبان ووضعت رجلي هذه المشئومة على وجهه
وجعلت أنادي : هذا جزاء من عصى الله عز وجل ، لما رفعتها من على وجهه حتى مات .
فاستأجرت هؤلاء الأربعة فغسلوه وكفنوه وحملوه إلى قبره و واروه كما رأيت ، فلما انصرفوا جعلت شعري في يدي كما قال ، ورفعته إلى الله ، وقلت : يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين يا خير منزول به قد علمت منا السر والعلن ، واطلعت على ما ظهر وبطن ، وقد توسل ولدي العاصي المذنب الخاطئ إليك برضا والدته المسكينة الذليلة وقد رضيت عنه ، فارض عنه ،
فسـمعت صوتا من داخل القبر يقول : انصرفي يا أماه فقد قدمت على رب كريم ، وقد غفر لي ذنوبي ، فهذا الذي أضحكني ، ثم ولت وهي مسرورة .