نحن على موعد مع رجل غير معروف لدى كثير من المسلمين ، لكن يكفيه أن يكون معروفا عند رب العالمين ، فلقد تعايش رضي الله عنه مع الإسلام قلبا وقالبا ، وامتلأ قلبه ثقة بنصرة هذا الدين ، فبذل كل ما يملك في سبيل نصرة دينه ، ثم قدم روحه فداء لعقيدته ، نحن نلتقي مع أسد الأنصار يوم اليمامة الصحابي الجليل أبي عقيل الأنيقي عبد الرحمن بن عبد الله ابن ثعلبة الأنصاري رضي الله عنه ، ونحن في هذه السطور نعيش مع الموقف الأسطوري العظيم لهذا البطل الكبير ، فتعالوا بنا لنرى المشهد الختامي لهذا العملاق الكبير . كان أبو عقيل عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة رضي الله عنه أحد السابقين للإسلام في يثرب ، إذ ما كان يستمع إلى آيات الذكر الحكيم يرتلها الداعية المكي الشاب مصعب بن عمير رضي الله عنه بصوته الشجي وجرسه الندي حتى أسر القرآن سمعه بحلاوة وقعه ، وملك قلبه برائع بيانه ، فشرح الله صدره للإيمان ، وأعلى قدره ، ورفع ذكره بالانضواء تحت لواء نبي الإسلام ، ولما قدم الرسول " إلى المدينة مهاجرا استقبله أبو عقيل في كوكبة كبيرة من فرسان قومه أفضل استقبال ، ورحب به وبصاحبه الصديق أجمل ترحيب ، ولكن تمضي الأيام والأعوام وتصعد روح النبي ﷺ إلى ربها .
وبعد أن مات رسول الله ﷺ ارتدت كثير من القبائل العربية التي لم تكن متعودة على الوحدة ، واعتبرت أن مشروع الوحدة انتهى بانتهاء حياة النبي ﷺ ، وكان أكثرهم خطرا على الإسلام بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب . استفحل أمر مسيلمة واشتد ، فقد اجتمع له أربعون ألفا من قومه بني حنيفة ، وظاهر هم نحو عشرين ألفا من الأحلاف ، فكان جيشه أعظم جيش عرفته العرب حتى ذلك اليوم ، وكان في الوقت نفسه ، يزيد أضعافا مضاعفة على جيش خليفة المسلمين الصديق رضي الله عنه ، لكن كان على رأس ذلك الجيش البطل الصنديد خالد بن الوليد رضي الله عنه .
معركة اليمامة
التقى الجمعان على أرض اليمامة ، فصف مسيلمة جنوده بعقرباء ، وجعل وراء الجيش النساء ، والأطفال ، والأموال ، وصف خالد جنوده في قبالة جيش عدوه ، ووقف الجيشان يتربصان الأمر بالهجوم الكاسح ، وكان كل من الفريقين يرى عين اليقين أن هذه المعركة ، إنما هي معركة فناء أو بقاء .
اشتبك الطرفان ، وقاتل المرتدون بشراسة ، وانصب بنو حنيفة على صفوف المسلمين انصباب الصخور ، وتدفقوا عليهم تدفق السيل ، وكانت كسرا عظيما للمسلمين كادت أن تقضي عليهم ، وأزيل خالد بن الوليد عن فسطاطه ، ووقعت زوجته أم تميم في قبضتهم ، فهموا بقتلها ، لولا أن أجارها رجل كان أول من أصيب في المعركة أبو عقيل رضي الله عنه بسهم في كتفه شل حركته ، فوقف هذا البطل المغوار على قدميه ليسحب السهم من كتفه ، فسالت دماؤه کشلال متفجر ، فحمله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى خيمة العلاج مغشيا عليه .
تلقى خالد الصدمة ، فصاح في الجيش : امتازوا أيها الجند ، امتازوا ليعلم بلاء كل فريق منكم ، وليعرف المسلمون من أين أتوا ، فجرت صيحة خالد بن الوليد حمية المسلمين لدين الله ، وأججت أشواقهم إلى الاستشهاد في سبيل الله ، ورفعت عن أعينهم الحجب ، فرأوا قصور الجنة مفتحة الأبواب لاستقبال الشهداء ، عند ذلك برزت في صفوف المسلمين بطولات لم تخطئ يد التاريخ أجل منها وأعظم ، وظهرت في جند الله بطولات لم تكن أسفاره أعز منها ولا أكرم . وكان في طليعة هؤلاء الأبطال أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه الذي سمع من خيمة العلاج صوت معن بن عدي الأنصاري رضي الله عنه يقول : الله الله يا معشر الأنصار ، الكرة الكرة على عدوكم يا من نصروا رسول الله ﷺ ، عندها فتح أبو عقيل عينيه ، وكان زلزالا أصابه ، فتحامل على ساقيه يريد الوقوف والوصول إلى سيفه ، فقال عبد الله بن عمر : ماذا تريد يا عم ؟! فقال : ألم تسمع المنادي ينادي ياسمي ؟ !!
قال عبد الله : إنما يقول يا أهل الأنصار ، ولا يعني الجرحى ، فقال أبو عقيل : أنا من الأنصار وأنا أجيبه والله ولو حبوا . تحزم أبو عقيل ، وأخذ السيف بيده اليمنى ، وخرج وهو ينادي بصوت كالرعد : يا أهل الأنصار كرة كيوم حنين ، يا للأنصار كرة كيوم حنين ، فاجتمع الأنصار حوله ، وتراصوا ، وتقدموا المسلمين ، وتفانوا حتى أقحموا مسيلمة ومن معه حديقة الموت.
حديقة الموت
وكان أبو عقيل عند باب حديقة الموت ، وقد قطعت يده من المنكب ، ووقعت على الأرض ، وبه من الجراح أربعة عشر جرحا كلها مميت ، فوقف عليه ابن عمر وهو صريع بآخر رمق وقال : يا عم أبو عقيل ، فقال بلسان ملتات : لبيك يا ابن أخي ، ثم قال لمن الهزيمة اليوم ، فقال ابن عمر : أبشر ، فقد قتل عدو الله وعدو رسوله ﷺ ، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله عز وجل ، ويثني عليه ، ثم لفظ آخر أنفاسه .
ولن تتوافر الطاعة التامة من جميع قبائل العرب على النحو الذي تم بعد حروب الردة في فتوح الشام والعراق . لقد كان هؤلاء الصحابة الأماجد الذين استشهدوا وشرفت بهم بطاح اليمامة ، والذين بقوا على الحياة بعدما أبلوا بلاء عظيما هم الصخرة الصلية التي تحطمت أمامها أحلام طغاة الكفار ، ومن ورائهم شياطين الجن الذين زينوا ركوب الضلالة ، وأعوانهم الذين روجوا بضاعتهم الدنيئة أمام عوام الناس وبسطائهم .