يذكر السمهودي في كتابه( وفاء الوفا ) أن السلطان نور الدين محمود بـن زنـكـي ( 511 هـ - 569 هـ ) كان له تهجدا وأوراداً يأتي بها فنام عقب تهجده فرأى النبي في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول : أنجـدني أنقذني من هذين فاستيقظ فزعا ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه فاستيقظ وتوضأ وصلى ونام فرأى المنام ثالثة فاستيقظ وقال لم يبق نوم وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي ،فأرسل خلفه ليلا وحكى له جميع ما اتفق له فقال له : وما قعودك ؟ أخرج الآن إلى المدينة النبوية واكتم ما رأيت فتجهز في بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفرا وصحبه الوزير المذكور وأخذ معه مالا كثيرا وقدم المدينة في ستة عشر يوما فاغتسل خارجها ودخل وصلى في الروضة وزار النبي ﷺ ثم جلس لا يدري ماذا يصنع فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد أن السلطان قصد زيارة النبي ﷺ وأحضر معه أموالا للصدقة فاكتبوا من عندكم فكتبوا أهل المدينة كلهم وأمر السلطان بحضورهم وكل من حضر أخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبيﷺ له فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف إلى أن انقضت الناس فقال السلطان هل بقي من أحد لم يأخذ شيئا من الصـدقة ؟ قالوا : لا قال : تفكروا أو تأملوا قالوا : لم يبق إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا وهما صالحان غنيان ويكثران الصدقة على المحاويج فانشرح صدره وقال علي بهما : فأتي بهما فرآهما الرجلين الذين أشار النبـي إليهما بقولـه : أنجدني أنقذني من هذين فقال لهما مـن أين أنتما ؟ فقالا من بلاد المغرب جئنا حاجين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله ﷺ فقال أصدقاني فصمما على ذلك فقال أين منزلهما ؟ فأخبر بأنهما في رباط قرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وحضر إلى منزلهما قرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا في الرقائق.
ولم ير فيه شيئا غير ذلك فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا : أنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي ﷺ وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت ولا يردان سائل قط بحيث سدا خلة المدينة في هذا العام المجدب فقال السلطان سبحان الله ولم يظهر شـيء مما رآه وبقي السلطان يطوف ي البيت بنفسـه فرفع حصـيرا في البيت فرأى سردابا محفورا ينتهي صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك وقال السلطان عند ذلك أصدقاني حالكما وضربهما ضربا شديدا فاعترفا بأنهما نصـرانيان بعثهما النصارى بزي الحجـاج المغاربة ومولوهما بأموال عظيمة وأمروهما بالتحايل في شيء عظيم خيلته لهم أنفسهم وتوهموا أن الله يمكنهم فيه وهو الوصول إلى الجسد الشريف ويفعلون به ما زينه لهم إبليس وما يترتب عليه فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة وفعلا ما تقدم وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور وأقاما على ذلك مدة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة واتفق إمساكهما واعترافهمـا فلما اعترفا وظهر حالهمـا على يديه ورأى تأهيل الله تعالى له دون غيره بكي بكاء شديدا وأمر بضرب رقابهما فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة وهو ما يلي البقيع ثم أمر بإحضـار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص وملأ به الخندق فصـار حول الحجرة الشريفة سورا رصاصيا إلى الماء ثم عاد إلى ملكه وأمر بإضعاف النصارى وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال وأمر مع ذلك بإلغاء المكوس جميعا .
آراء تنفي صحة رؤيا نور الدين محمود بن زنكي وإنقاذه للجسد الشريف للرسول
نفي بعض المؤرخين المعاصرين صحة القصة التي وردت في بعض الكتب التاريخية والتي تتحدث عن رؤية نورالدين زنكي للرسول في المنام والتي مـر ذكرها آنفا ومنهم ما ذكره الصلابي أن الأستاذ إبراهيم الزيبق علق على قصة الرؤيا في تحقيقه لكتاب ( الروضتين في أخبار الدولتين ) مدعيا عدم ثبوت هذه القصـة
للأسباب التالية :
أن القصـة أول مـن رواهـا المطري مـؤذن الحـرم النبوي ( ت 741 هـ ) في كتابه ( التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة ) وبينه وبين نور الدين ( ١٧٢ سنة ) وإسناد القصة مليء بالمجاهيل .
لم تذكر القصـة في كتب المؤرخين الملازمين لنور الدين كابن الأثير وأبي شـامة وغيرهم مع شدة حرصهم على نقل أخباره . ذكر أن القصة وقعت سنة ( 577 هـ ) ولم يذكر أحد من المؤرخين أن نور الدين زار المدينة في تلك السنة بل إنه لم يزرها في حياته ولم يحج . أن إثارة القصة ربما كانت بسبب تكملة نور الدين لسور المدينة وكتابة اسمه عليه فوهم في أنه قد قدم المدينة ودمج مع محاولة الصليبيين الاستيلاء على المدينة سنة ( 578 هـ ) وإشاعة محاولتهم نقل الجسد الشريف إلى بلدانهم .
ذكر محسن محمد حسين نفيه لصـحة الحادثة أعلاه ولنفس الأسباب المذكورة آنفا .
الرد على من نفي قيام نور الدين محمود بن زنكي بإنقاذ مثوى الرسول الكريم
إن أول ذكر للقصـة من قبل المطري بعد ( ١٧٢ سنة ) من وفاة نور الدين محمود لا يعنـي الجزم بعدم صحتها إطلاقا وإن عدم ذكر الحادثة في المصادر التاريخية القريبة من عهد نور الدين لا يعني عدم صحتها فالمصادر التاريخية لم يدون فيها كل الحوادث ورغم ذلك فالحادثة ذكرت في بعض المصادر التاريخية منها ( التعريف بما أنسـت الهجرة من معالم دار الهجرة ) للمطري ( ت 741 هـ ) وكذلك ذكرها ابن قاضي شهبة ( ت 874 هـ ) في كتابه ( الكواكب الدرية في السيرة النورية ) ونقلها أيضاً الدياريكري ( ت 990 هـ ) في كتابه ( تاريخ الخميس في أحـوال أنفس النفيس ) ونقلها ابن العماد الحنبلي ( ت ١٠٨٩ هـ ) في كتابه ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب )
. ونرى عدم ذكر القصة في المصادر التاريخية المعاصرة لنور الدين محمود وهـو أن الحادثة كانت كرامة من الله تعالى وأن أصحاب الكرامات يعملون جاهدين على عدم ذكرها وإشاعتها بين الناس مما حجب ذكر الحادثة لمدة طويلة والله أعلم .